فصل: الفصل الثاني:في دخول الحمام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 الفصل الثاني

في دخولها

فنقول‏:‏ ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها، أو عدم استحبابه بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها، ولا أبو بكر، وعمر، فإن/هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمام، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها، وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب، بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول، وهو القدرة والإمكان‏.‏

وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراقب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجودًا في الحجاز، فلم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة، ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس‏.‏ ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى‏:‏ كالشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وأرمينية، وأذربيجان، والمغرب، وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم، أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل مثله، ولم يلبس مثله؛ إذ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية، وهو أضعف من القول باتفاق العلماء، وسائر الأدلة من أقواله‏:‏ كأمره ونهيه وإذنه، من قول اللهـ تعالى ـ هى أقوى وأكبر، ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية‏.‏

/وكذلك إجماع الصحابة ـ أيضًا ـ من أقوى الأدلة الشرعية، فنفي الحكم بالاستحباب لانتفاء دليل معين من غير تأمل باقي الأدلة خطأ عظيم، فإن الله يقول‏:‏‏{‏ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏، ولم تكن البغال موجودة بأرض العرب، ولم يركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلة إلا البغلة التي أهداها له المقوقس من أرض مصر بعد صلح الحديبية‏.‏ وهذه الآية نزلت بمكة‏.‏ ومثلها في القرآن‏:‏ يمتن الله على عباده بنعمه التي لم تكن بأرض الحجاز كقوله تعالى‏:‏‏{‏ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24 ـ 31‏]‏‏.‏ ولم يكن بأرض الحجاز زيتون، ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل زيتونًا‏.‏ ولكن لعل الزيت كان يجلب إليهم‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏، ولم يكن بأرضهم لا هذا ولا هذا، ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل منهما، وكذلك قوله‏:‏‏{‏وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلوا الزيت وادهنوا /به، فإنه من شجرة مباركة‏)‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وكذلك قوله‏:‏‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْبًا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وكذلك قوله في البحر‏:‏‏{‏ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏12ـ 14‏]‏، ولم يركب النبي صلى الله عليه وسلم البحر، ولا أبو بكر، ولا عمر، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بمن يركب البحر من أمته غزاة في سبيل الله كأنهم ملوك على الأسرة ـ لأم حَرَام بنت مِلّحان ـ وقالت‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم، فقال‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏‏.‏

وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطعم ما يجده في أرضه، ويلبس ما يجده، ويركب ما يجده، مما أباحه الله ـ تعالى ـ فمن استعمل ما يجده في أرضه فهو المتبع للسنة‏.‏ كما أنه حج البيت من مدينته‏.‏ فمن حج البيت من مدينة نفسه فهو المتبع للسنة، وإن لم تكن هذه المدينة تلك‏.‏

/وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد من يليه من الكفار من المشركين وأهل الكتاب، فمن جاهد من يليه من هؤلاء فقد اتبع السنة، وإن كان نوع هؤلاء غير نوع أولئك؛ إذ أولئك كان غالبهم عربًا، ولهم نوع من الشرك هم عليه، فمن جاهد سائر المشركين تُرْكِهم، وهِنْدِهم وغيرهم، فقد فعل ما أمر الله به‏.‏ وإن كانت أصنامهم ليست تلك الأصنام‏.‏

ومن جاهد اليهود والنصارى فقد اتبع السنة، وإن كان هؤلاء اليهود والنصارى من نوع آخر، غير النوع الذين جاهدهم البنى صلى الله عليه وسلم، فإنه جاهد يهود المدينة‏:‏ كقريظة، والنضير، وبنى قينقاع، ويهود خيبر، وضرب الجزية على نصارى نجران، وغزا نصارى الشام، عربها ورومها، عام تبوك، ولم يكن فيها قتال، وأرسل إليهم زيدًا، وجعفرًا، وعبد الله بن رواحة، قاتلوهم في غزوة مؤتة‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أميركم زيد، فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله ابن رواحة‏)‏‏.‏

وصالح أهل البحرين، وكانوا مجوسًا على الجزية، وهم أهل هجر وفي الصحيح أنه قدم مال البحرين فجعله في المسجد، وما ثاب حتى قسمه، وهذا باب واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع، وميزنا بين السنة والبدعة، وبينا أن السنة هى ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة للَّه ورسوله، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل/على زمانه، أو لم يفعله، ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه‏.‏

فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكتبوا عنى غير القرآن، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه‏)‏ فشرع كتابة القرآن؛ وأما كتابة الحديث فنهى عنها أولا، وذلك منسوخ عند جمهور العلماء بإذنه لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه ما سمعه، في الغضب والرضا، وبإذنه لأبي شاه أن تكتب له خطبته عام الفتح، وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لما استعمله على نجران، وبغير ذلك‏.‏

والمقصود هنا أن كتابة القرآن مشروعة، لكن لم يجمعه في مصحف واحد؛ لأن نزوله لم يكن تم، وكانت الآية قد تنسخ بعد نزولها، فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد، حتى مات‏.‏ وكذلك قيام رمضان‏.‏ قد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة‏)‏ وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في آخر الشهر ليالى، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يداوم بهم على الجماعة، خشية أن /تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏)‏ فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة؛ لكونه ابتدئ‏.‏ كما قال عمر‏:‏ نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل وقد بسطنا ذلك في قاعدة‏.‏

 فَصْــل

الماء الجاري في أرض الحمام خارجًا منها، أو نازلاً في بلاليعها، لا يحكم بنجاسته، بل بطهارته، إلا أن تعلم نجاسة شيء منه؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أن الحمام لم ينه عن الصلاة فيها لكونها مظنة النجاسة، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء، وهو وجه في مذهب أحمد‏.‏ ومن قال هذا قال‏:‏ إذا غسلنا موضعًا منها، أو تيقنا طهارته جازت الصلاة فيه‏.‏

/وأما على من قال بالنهي مطلقًا، كما في حديث أبي سعيد الذي في سنن أبي داود وغيره ـ وقد صححه من صححه من الحفاظ، وبينوا أن رواية من أرسله لا تنافي الرواية المسندة الثابتة ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏)‏ فاستثنى الحمام مطلقًا، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى‏.‏ فلهم طريقان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النهى تعبد لا يعقل معناه كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم كأبى بكر، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه‏.‏

والثاني‏:‏ أن ذلك لأنها مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن الشيطان قال‏:‏ يارب اجعل لي بيتًا، قال‏:‏ بيتك الحمام، قال‏:‏ اجعل لى قرآنًا قال‏:‏ قرآنك الشعر، قال‏:‏ اجعل لي مؤذنًا، قال‏:‏ مؤذنك المزمار‏)‏‏.‏

وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك كما في الحديث‏:‏ ‏(‏إن على ذروة كل بعير شيطان‏)‏، ‏(‏وإنها جن خلقت من جن‏)‏؛ إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فرق بين أعطان الإبل، ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء‏.‏ كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء من لحومها؛ بأنه لأجل مس النار مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء‏.‏

/وكذلك تعليل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التراب هو ضعيف، فإن النهي عن المقبرة مطلقًا، وعن اتخاذ القبور مساجد، ونحو ذلك مما يبين‏.‏ أن النهي لما فيه من مظنة الشرك، ومشابهة المشركين‏.‏

وأيضًا، فنجاسة تراب المقبرة فيه نظر، فإنه مبنى على ‏[‏مسألة الاستحالة‏]‏ ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان مقبرة للمشركين، وفيه نخل، وخرب‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطعت، وجعلت قبلة المسجد، وأمر بالخرب فسويت، وأمر بالقبور فنبشت، فهذه مقبرة منبوشة، كان فيها المشركون‏.‏ ثم لما نبش الموتى جعلت مسجدًا مع بقاء ما بقى فيها من التراب، ولو كان ذلك التراب نجسًا لوجب أن ينقل من المسجد التراب النجس، لاسيما إذا اختلط الطاهر بالنجس، فإنه ينبغي أن ينقل به زوال النجاسة، ولم يفعل ذلك، ولم يؤمر باجتناب ذلك التراب، ولا بإزالة ما يصيب الأبدان والثياب منه‏.‏

فتبين أن الحكم معلق بظهور القبور، لا بظن نجاسة التراب‏.‏

وأيضًا، من علل ذلك بالنجاسة، فإن غايته أن يكره الصلاة عند الاحتمال، كما قاله من كره الصلاة في المقبرة والحمام، والأعطان، ولم/ يحرمها كما ذهب إليه طائفة من العلماء، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن السنة فرقت بين معاطن الإبل، ومبارك الغنم؛ ولأنه استثنى كونها مسجدًا، فلم تبق محلاً للسجود؛ ولأنه نهى عن ذلك نهيًا مؤكدًا بقوله قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

ولأنه لعن على ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏؛ يحذر ما فعلوا ولأنه جعل مثل هؤلاء شرار الخليقة بقوله‏:‏ ‏(‏إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏)‏‏.‏

وأيضًا، فإنه قد ثبت بسنته أن احتمال نجاسة الأرض لا يوجب كراهة الصلاة فيها، بل ثبت بسنته أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة ‏.‏ كما هو قول طوائف من العلماء‏:‏ كأبي حنيفة، والشافعي، في قول، ومالك في قول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد ‏.‏ فإنه ثبت أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏.‏ وثبت في الصحيح عنه أنه كان يصلي في نعليه، وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا أتى /أحدكم المسجد فلينظر في نعليه‏:‏ فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور‏)‏ فإذا كان قد جعل التراب يطهر أسفل الخف فلأن يطهر نفسه أول وأحرى‏.‏

وأيضًا، فمن المعلوم‏:‏ أن غالب طرقات الناس تحتمل من النجاسة، نحو ما تحتمله المقبرة والحمام‏.‏ أو نحو ذلك أو أكثر من ذلك، فلو كان ذلك سبب النهي عن الصلاة في النعال مطلقًا؛ لأن هذا الاحتمال فيها أظهر‏.‏ فهذه السنن تبطل ذلك التعليل من وجهين‏:‏

من جهة أن هذا الاحتمال لم يلتفت إليه، ومن جهة أن التراب مطهر لما يلاقيه في العادة‏.‏

والمقصود هنا‏.‏ الكلام في الماء الجاري في الحمام فنقول‏:‏ إن كراهة هذا الماء وتوقيه، وغسل ما يصيب البدن والثوب منه، إما أن يكون على جهة الاستقذار، وإما أن يكون على جهة النجاسة‏.‏

أما الأول فكما يغسل الإنسان بدنه وثيابه من الوسخ والدنس، ومن الوحل الذي يصيبه، ومن المخاط والبصاق، ومن المني على القول بطهارته، وأشباه ذلك‏.‏ ومثل هذا قد يكون في المياه المتغيرة بمقرها وممازجها ونحو ذلك‏.‏ وهذا نوع غير النوع الذي نتكلم فيه الآن‏.‏

/وأما اجتناب ذلك على جهة تنجيسه، فحجته أن يقال‏:‏ إن هذا الماء في مظنة أن تخالطه النجاسة، وهو ما يكون في الحمام من القيء والبول‏:‏ فإن هذه النجاسة التي قد تكون في الحمام‏.‏ فأما العذرة أو الدم، أو غير ذلك، فلا تكاد تكون في الحمام‏.‏ وإن كان فيها نادرًا تميز وظهر‏.‏

وأيضًا، فقد يزال به نجاسة تكون على البدن، أو الثياب‏.‏ فإن كثيرًا ممن يدخل الحمام يكون على بدنه نجاسة، إما من تخلي، وإما من مرض، وإما غير ذلك، فيغسلها في الحمام‏.‏ وكذلك بعض الآنية قد يكون نجسًا، وقد يكون بعض ما يغسل فيها من الثياب نجسًا‏.‏

وأيضًا، فهذا الماء كثيرًا ما يكون فيه الماء المستعمل في رفع الحدث وهو نجس عند من يقول بنجاسته، فهذه الحجة المعتمدة‏.‏

والجواب عنها مبني على أصول ثلاثة‏:‏

أحدها‏:‏ الجواب فيه من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يقال‏:‏ الماء الفائض مـن حياض الحمام، والمصبوب على أبدان المغتسلين، أو على أرض الحمام طاهر بيقـين، ومـا ذكر مشكوك في إصابته لهذا الماء المعين، فإنه وإن تيقـن أن الحمام يكـون فيـه/مثل هذا فلم يتيقن أن هذا الماء المعين أصابه هذا، واليقين لا يزول بالشك‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يقال هذا بعينه وارد في طين الشوارع لكثرة ما يصيبه من أبوال الدواب، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم بطهارته، بل النجاسة في طين الشوارع أكثر، وأثبت‏.‏ فإن الحمام وإن خالط بعض مياهها نجاسة، فإنه يندفع، ولا يثبت بخلاف طين الشوارع‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ كما أن الأصل عدم النجاسة، فالظاهر موافق للأصل، وذلك أنا إذا اعتبرنا ما تلاقيه النجاسة في العادة، وما لا تلاقيه كان ما لا تلاقيه أكثر بكثير‏.‏ فإن غالب المياه الجارية في أرض الحمام لا يلاقيها في العادة نجاسة، وإذا اتفق الأصل والظاهر، لم تبق المسألة من موارد النزاع، بل من مواقع الإجماع‏.‏ ولهذا قلت‏:‏ إنه لا يستحب غسل ذلك تنجسًا، فإنه وسواس‏.‏

ولنا فيما إذا شك في نجاسة الماء هل يستحب البحث عن نجاسته‏.‏ وجهان‏:‏ أظهرهما لا يستحب البحث، لحديث عمر‏.‏ وذلك لأن حكم الغائب إنما يثبت بعد العلم في الصحيح، الذي هو ظاهر مذهب أحمد، ومذهب مالك وغيرهما، ولا إعادة على من لم يعلم ـ أن عليه/نجاسة‏.‏ وهذا وإن كان في اجتنابها في الصلاة فمسألة إصابتها لنا فيها ـ أيضًا ـ وجهان‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أنا إذا قدرنا أن الغالب التنجس، فقد يعارض الأصل والظاهر، وفي مثل هذا كثيرًا ما يجيء قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، كثياب الكفار ونحو ذلك، لكن مع مشقة الاحتراز ـ كطين الشوارع ـ يرجحون الطهارة، وإذا قيل بالتنجيس في مثل هذا عفي عن يسيره‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ هب أن هذا الماء خالطته نجاسة، لكنه ماء جار، فإنه ساح على وجه الأرض، والماء الجاري إذا خالطته نجاسة ففيه للعلماء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة، وهذا أصح القولين، وهو مذهب مالك، وأحمد في أحد القولين، اللذين يدل عليهما نصه، وهو مذهب أبي حنيفة، مع شدة قوله في الماء الدائم وهو القول القديم للشافعي‏.‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم، والاغتسال فيه، دليل على أن الجاري بخلاف ذلك‏.‏ وهو دليل على أنه لا يضره البول فيه، والاغتسال فيه‏.‏

وأيضًا، فإنـه طاهر لم يتغير بالنجاسة، وليس في الأدلة الشرعية/ ما يوجب تنجيسه، فـإن الذين يقـولون ‏:‏ إن الماء الجاري كالدائم تعتـبر فيـه القلتان،فـإذا كـانت الجـريـة أقـل مـن قلتين، نجسـته‏.‏ كما هـو الجـديد مـن قولى الشافعي، وأحـد القولين في مذهب أحمـد، فـإنه لا حجـة لهم في هذا ، ولا أثر عن أحد من السلف ، إلا التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏ وقياس الجاري على الدائم، وكلاهما لا حجة فيه‏.‏

أمـا الحـديث فمنطـوقـه لا حجـة فيـه، وإنما الحجة في مفهومه، ودلالة مفهوم المخالفة لا تقتضي عموم مخالفة المنطوق في جميع صور المسكوت بل تقتضي أن المسكـوت ليس كالمنطـوق، فـإذا كـان بينهما نـوع فـرق ثبت أن تخصيص أحـد النـوعين بالذكـر مع قيام المقتضي للتعمـيم كـان لاختصاصه بالحكم‏.‏ فإذا قال‏:‏ إذا بلغ الماء قلتـين لم يحمـل الخبث، دل أنـه إذا لم يبلغ قلتين لم يكن حكمه كذلك، فإذا كـان ما لم يبلغ فرق فيه بين الماء الجاري والدائم حصل المقصود، لاسيما والحديث ورد جوابًا عن سؤالهم عن الماء الدائم الذي يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من السباع والدواب، فيبقى قوله‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏ الوارد في بئر بُضَاعة متناولا للجاري‏.‏ والفرق أن الجاري له قوة دفع النجاسة عن غيره، فإنه إذا صب على الأرض النجسة طهرها، ولم يتنجس، فكيف لا يدفعها عن نفسه؛ ولأن الماء الجاري يحيل النجاسة بجريانه‏.‏

/وأيضًا، فإن القياس‏:‏ هل هو تنجيس الماء بمخالطة النجاسة‏؟‏ أو عدم تنجيسه حتى تظهر النجاسة‏؟‏ فيه قولان للأصحاب وغيرهم‏.‏

فمن قال بالأول، قال‏:‏ العفو عما فوق القلتين‏:‏ كان للمشقة؛ لأنه يشق حفظه من وقوع النجاسة فيه؛ لأنه غالبًا يكون في الحياض والغدران والآبار، بخلاف القليل، فإنه يكون في الأواني، وهذا المعنى موجود في الجاري، فإنَّ حِفّظَه من النجاسة أصعب من حفظ الدائم الكثير‏.‏

ومن قال بالثاني وأن الأصل الطهارة حتى تظهر النجاسة، كان التطهير على قوله أوكد، فإن القليل الدائم نجس؛ لأنه قد يحمل الخبث، كما نبه عليه الحديث‏.‏ وأما الجاري فإنه بقوة جريانه يحيل الخبث فلا يحمله، كما لا يحمله الكثير‏.‏

وإذا كان كذلك، فهذه المياه الجارية في حمام إذا خالطها بول أو قيء أو غيرهما، كانت نجاسـة قـد خالطت مـاءً جـاريًا، فلا ينجس إلا بالتغير، والكلام فيما لم تظهر فيه النجاسة‏.‏

وإن قيل‏:‏ إن ماء الحمام يخالطه السدر، والخطمى، والتراب، وغير ذلك مما يغسل به الرأس، والأشنان والصابون والحناء/وغير ذلك من الطاهرات التي تختلط به، حتى لا تظهر فيه النجاسة‏.‏

قيل‏:‏ إذا جاز أن تكون النجاسة ظاهرة فيه، وجاز ألا تكون ظاهرة، فالأصل عدم ظهورها، وإذا كان قد علم أنه تخالطه الطاهرات، ورأيناه متغيرًا، أحلنا التغير على مخالطة الطاهرات؛ إذ الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، لا إلى المقدر المظنون‏.‏ بل قد ثبت النص بذلك فيما أصله الحظر، كالصيد إذا جرح، وغاب، فإنه ثبت بالنص إباحته، وإن جاز أن يكون قد زهق بسب آخر أصابه، فزهوقه إلى السبب المعلوم، وهو جرح الصائد أو كلبه؛ وإن كان في المسألة أقوال متعددة، فهذا هو الصواب الذي ثبت بالنص الصحيح الصريح‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ أن نقول‏:‏ هب أن الماء تنجس، فإنه صار نجاسة على الأرض، والنجاسة إذا كانت على الأرض بولاً كانت أو غير بول فإنه يطهر بصب الماء عليها، إذا لم تبق عينها‏.‏ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث قال‏:‏ ‏(‏لا تزرموه‏)‏ أى لا تقطعوا عليه بوله‏.‏ ‏(‏فصبوا على بوله ذنوبًا من ماء‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين‏)‏‏.‏

ولهذا قال أصحاب أحمد وغيره‏:‏ إن نجاسة الأرض والبرك والحياض المبنية ونحو ذلك، مما لا ينقل ويحول، يخالف النجاسة على المنقول من الأبدان والثياب والآنية، من ثلاثة أوجه‏:‏

/أحدها‏:‏ أنه لا يشترط فيها العدد‏.‏ لا من ولوغ الكلب ولا غيره‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لا يشترط فيها الانفصال، عن موضع النجاسة‏.‏

الثالث‏:‏ أن الغسالة طاهرة قبل انفصالها عن موضع النجاسة‏.‏

وإذا كان كذلك فنقول‏:‏ ما كان على أرض الحمام من بول وغيره، فإنه قد جرى عليه الماء بعد ذلك، فطهرت الأرض مع طهارة الغسالة، وإذا كانت غسالة الأرض طاهرة زالت الشبهة بالكلية، فإنه إن قال قائل‏:‏ قد يكون من الماء ما تزال به نجاسة عن البدن أو آنية، أو ثوب‏.‏

قيـل له‏:‏ فهـذه إذا كـانت نجسـة وأصابت الأرض لم تكـن أعظم مـن البـول المصيب الأرض، وإذا كـانت تلك النجاسـة تـزول مـع طهارة الغسالـة قبل الانفصال فـهذه أولى، وليس له أن يقـول‏:‏ النجاسـة منتفيــة، ومـرور الماء المطهـر مشكوك فيـه، لاسيما وقـد يكـون ذلك المـاء المـار مما لا يزيـل النجاسـة، لكـونه مستعملا‏.‏ أو لتغيره بالطاهرات؛ لأنه يقال لـه‏:‏ ليس الكـلام في نجاسـة معينة منتفية مشكوك في زوالها، وإنما الكلام فيما يعتاد‏.‏

/ومـن المعلـوم بالعادات أن الماء المطهـر، والجاري على أرض الحمام، أكثر من النجاسـات بكثـير كثير‏.‏ فيكـون ذلك المـاء قد طهر ما مر عليه من نجس‏.‏ فإن اغتسال الناس مـن غير حدث ولا نجس في الحمامات أكثر من اغتسالهم من إحدى هاتين الطهارتين، وهـم يصبون على أبدانهم من الماء القراح الذي ينفصل غير متغير أكثر من غـيره، وإن كـان فيـه تغير يسير بيسير السدر والأشنان، فهذا لا يخرجه عن كونه مطهرًا، بل الراجـح مـن القولين ـ وهو إحدى الروايتين عن أحمد التي نصها في أكثر أجوبته ـ‏:‏ أن الماء المتغير بالطاهر كالحمص والباقلاء، لا يخرج عن كونه طهورًا، ما دام اسم الماء يتناوله كالماء المتغير بأصل الخلقة، كماء البحر وغيره، وما تغير بما يشق صونه عنه من الطحلب، وورق الشجر، وغيرهما، فإن شمول اسم الماء في اللغة لهذه الأصناف الثلاثة واحد‏.‏

فإن كان لفظ الماء في قوله‏:‏‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ يتناول أحد هذه الأصناف، فقد تناول الآخرين، وقد ثبت أنه متناول للمتغير ابتداء، وطردًا لما يشق الاحتراز عنه، فيتناول الثالث؛ إذ الفرق إنما يعود إلى أمر معهود، وهو أن هذا يمكن الاحتراز عنه، وهذا لا يمكن، وهذا الفرق غير مؤثر في اللغة، ويتناول اللفظ لمعناه، وشمول الاسم مسماه، فيحتاج المفرق إلى دليل منفصل‏.‏ وقد ثبت/ بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته‏:‏ ‏(‏اغسلوه بماء وسدر‏)‏ وكذلك قال للاتي غسلن ابنته‏:‏ ‏(‏اغسلنها بماء وسدر‏)‏ وللذي أسلم‏:‏ ‏(‏اغتسل بماء وسدر‏)‏ وهذا فيه كلام ليس هذا موضعه‏.‏

وإذا تبين ما ذكرناه ظهر عظيم البدعة، وتغيير السنة والشرعة، فيما يفعله طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين من فرط الوسوسة في هذا الباب، حتى صاروا إنما يفعلونه مضاهين لليهود، بل للسامرية الذين يقولون ‏:‏ لا مساس‏.‏

وباب التحليل والتحريم ـ الذي منه باب التطهير والتنجيس ـ دين الإسلام فيه وسط بين اليهود والنصارى، كما هو وسط في سائر الشرائع، فلم يشدد علينا في أمر التحريم والنجاسة كما شدد على اليهود، الذين حرمت عليهم طيبات أحلت لهم بظلمهم وبغيهم، بل وضعت عنا الآصار والأغلال، التي كانت عليهم، مثل قرض الثوب ومجانبة الحائض في المؤاكلة، والمضاجعة، وغير ذلك‏.‏ ولم تحلل لنا الخبائث كما استحلها النصارى، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فلا يجتنبون نجاسة، ولا يحرمون خبيثًا، بل غاية أحدهم أن يقول طهر قلبك، وصل‏.‏ واليهودي إنما يعتني بطهارة ظاهره/ لا قلبه، كما قال تعالى عنهم‏:‏‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وأما المؤمنون، فإن الله طهر قلوبهم وأبدانهم من الخبائث، وأما الطيبات، فأباحها لهم، والحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى‏.‏